غارة أنهت عائلة نازحة .. وتركت ابنها يتيماً في الغربة

إعداد: صفا عصام توبه

ولا حدا “شهادة حيّة من قلب المجزرة…”

جلس علي على الأريكة في غربته، بعيدًا آلاف الكيلومترات عن بيروت. كانت يداه تعبثان بهاتفه، وقلبه يعبث به. لا شيء في النهار كان طبيعيًّا. حتى ضحكة أمّه في مكالمة الظهر كانت غريبة… “أول مرة بترد عليي وهي وعم تعمل أكل”، قالها لنفسه كمن يحاول فكّ لغزًا صغيرًا يلاحقه منذ الصباح. شرب شربة ماء. لم يكن عطشانًا. كان شيء داخله ينشف دون أن يدري. ثم قلب شاشة الهاتف. عنوان واحد، من دون تفاصيل، من دون أسماء: “غارة على رأس النبع – النويري.”صمت كلّ شيء… ثم فجأة، انفجر الصوت من صدره: “أهلي راحوا!”قالها قبل أن يسمع أي خبر. قبل أن يجيبه أحد. قالها لأن قلبه عرف. لأن الروح تسبق أحيانًا الحقيقة. من هناك بدأت النهاية. ومن هناك تبدأ الحكاية. حكاية شاب عاد من غربته، لا ليلتقي عائلته، بل ليمشي وحده بين قبورهم، حافي القلب، لا ظلّ له سوى الذكرى.

في ١٠ تشرين الأول ٢٠٢٤، استهدفت غارة إسرائيلية شقة سكنية في منطقة النويري في بيروت. داخل الشقة كانت تقيم عائلة حسين محمد نجدي، والتي نزحت قبل أسابيع من بلدة صريفا جنوب لبنان، هربًا من القصف المتواصل. الغارة أسفرت عن استشهاد الأب حسين، الأم لارا، التوأم بسام وزكريا (عمرهما ١٥ عامًا)، والطفلة فاطمة (٤ سنوات). الناجي الوحيد من هذه العائلة هو ابنهم الأكبر. علي حسين نجدي، الذي كان يعمل في جمهورية الكونغو منذ منتصف آب. سافر بحثًا عن لقمة عيشٍ تحفظ كرامته وتُفرح أهله.

قصة المجزرة لم تبدأ في بيروت، بل بدأت قبلها بأسابيع، بين صريفا وصور وعدلون، ثم وصلت إلى قلب العاصمة. والمجزرة لم تُمحَ، بل تحولت إلى ذاكرة حيّة يمشي بها علي كل يوم. ظنًّا منهم أن الموت لا يزور المدن.

في ١٥ آب ٢٠٢٤، عند الساعة العاشرة والنصف ليلًا، انطلقت سيارة العائلة من صريفا إلى بيروت، تقلّ كل من: الأب حسين، الأم لارا، ابنهما علي، التوأم بسام، والطفلة فاطمة. زكريا، توأم بسام، بقي في الضيعة ليلعب مع رفاقه. لحظة الوداع لم تكن عادية. لارا كانت ترتدي لون الحزن أينما ذهبت، كما اعتادت منذ الحرب. وفاطمة كانت بفستانها الأبيض والأسود تمسك بـ”بابيون”، كأنها ذاهبة لفرح لا تعرف أنه وداع. حسين بالأبيض، وبسام يرتدي السماء.

وصلوا إلى مطار بيروت عند الساعة ١٢:٣٠ بعد منتصف الليل. تأجّلت الرحلة حتى السادسة صباحًا. جلست لارا قرب ابنها علي، تمسح جبينه وتهمس له:

“الله يرضى عليك يا إمي، ويوفّقك، خليك راضي ربّك انت بالغربة”. علي ضحك، لكنه تذكّر لاحقًا أن تلك الضحكة كانت تحمل نبوءة ما. قال: “عابطتني ما بدا تفلتني، وقالتلي ركّز عصلاتك يا إمي وساير العالم.”

كانت هذه المرة الأخيرة التي يرى فيها وجهها عن قرب. المرة الأخيرة التي يشتم فيها رائحتهم جميعًا.

في ٢٣ أيلول، ومع بداية العدوان الإسرائيلي على الجنوب، قررت العائلة مغادرة صريفا. كانت أولى المحطات منزل أهل لارا في صور، حيث بقوا أربعة أيام. ثم انتقلوا إلى عدلون عند أخت لارا جمانة ليومين، قبل أن تدفعهم شدة الغارات إلى بيروت.

استأجروا شقة في النويري، آملين أن يكونوا بمأمن هناك فسماء المدن لا تعرف صوت الصواريخ. في تلك الفترة، كان علي في تواصل دائم معهم، يتبادل التسجيلات الصوتية، يسمع صوت أمه، يشتاق لأخوته.

لارا كانت تعدّ الطعام وكأن علي سيطرق الباب فجأة، وتقول له في التسجيل: “شو بتحب نعملك أول ما ترجع؟ الباذنجان المقلي بعدو ناطرك تعا كول”. كانت هذه وجبته المفضلة.

في ١٠ تشرين الأول، الساعة ٢:٣٠ ظهرًا، اتصل علي بوالدته عبر الفيديو. ردّت عليه وهي في المطبخ، تحضّر فعلاً الباذنجان المقلي. ضحكت لارا، لكن علي شعر بشيء غريب: “ضحكتا كانت كتير غريبة، ما قدرت إفهما.” أنهى الاتصال. جلس في المطبخ، شرب شربة ماء. لم يكن عطشانًا. لكن قلبه كان فارغًا.

في الساعة ٧:٢١ مساءً، وصل الخبر: “غارة على النويري”. من دون أن يقرأ التفاصيل، من دون أن يرى الأسماء، صرخ: “أهلي راحوا!” ركض نحوه أمين، ابن خالته. “شو في؟”..  غصّ علي والدموع تختنق في صوته: “عم قلك أهلي استشهدوا.” بكى، وبكى أمين لبكائه. “ما عرفت شو إعمل غير أهبطا ونبكي”. اتصل علي مرارًا بخالته جمانة. لم تجب. ثم، أخيرًا، عند الساعة ٨:٣٠ مساءً، ردّت. سألها رغم معرفته بالجواب: “مين بقي؟” قالت، بصوت ينهار وفيه رجفة الرعد والبرق: “ولا حدا”. بكى علي وأمين وجمانة حتى الإختناق.

في اليوم التالي، ١١ تشرين الأول، عند الساعة ١:٠٨ ظهرًا، وُوريت الأجساد في جبانة بلدة صريفا. لارا وطفلتها فاطمة دُفنتا في قبر واحد. حسين، بسام، وزكريا في قبور منفصلة وجميعهم بقرب بعض كالعائلة.  علي لم يكن حاضرًا بالجسد، لكنّه قال:

“أنا دفنتن بقلبي.” وطلب أن تُدفن فاطمة في حضن أمّها: “عشان تضلّها بحضن إمي للأبد.”

بقي علي في الغربة بعد وقف إطلاق النار، يشاهد اللبنانيين يعودون إلى أهلهم، بينما هو بقي هناك، بلا أحد. وفي ١٦ كانون الأول ٢٠٢٤، عاد. الساعة الرابعة عصرًا، وصل إلى مطار بيروت. لا أم تنتظره، لا أب، لا إخوة، لا فاطمة. فقط خالته، بالدمع. كل الأشخاص يجيدون لغة الأحضان والدموع لأن لا كلمات تعزّي فاقدًا بما فقد. “أنا خسرت أختي، بس هو خسر كل شي”. قالتها بحيرة وهي تتلفت للقبور الأربع..

طلب علي الذهاب مباشرة إلى الجبانة. دخل ورفاق دربه ينظرونه. لا يذكر وجوههم. يذكر ان جميعهم حضنوه ولكن لم يكن الحضن الذي يريده. “لقيت جريب ماخديني لعند إمي..”. وقف فوق قبر أمه وأخته، جلس بصمت. مرّر كفّه على الشاهد. همس: “رجعت.” وبكى طويلا. ثم مشى نحو قبر والده. قبّله. ركع أمام قبري التوأم: “اشتقتلكن.” أسند ظهره على حائط وهمي ومدّ قدميه “ليش تركتوني لحالي”. وبحيرة ينظر للقبور الأربع “على مين بدي إبكي ومع مين بحكي”.

والآن صار علي مع موعد جديد أكثر إيلاما من مقبرة الأجساد. الآن سيذهب لمقبرة الذكريات. عندما قرر دخول البيت، لم يفتحه كما يفتح الناس بيوتهم.

وقف طويلًا أمام الباب، كأنه ينتظر إذنًا. دخل. الغرفة الأولى كانت غرفة أمّه وأخته. اللون  البنفسجي المليئ بالسكون، سرير فاطمة الذي يحمل الفراشات، الدُمى المرمية بداخله التي أكلتها غبار الإعتداءات. كل المكان يضجّ بالذكريات. فتح الخزانة، أخذ ثوب لارا، ضمّه إلى وجهه. شمّ ما تبقّى منها وبكى. شمّ رائحة الحنان الميّت للمرة الأولى. شمّ عطر جسدها المدفون تحت التراب. تناول مصلّى والده، ركع عليه. قبّل مكان القدمين وبكى وهو ساجدا. حمل لعبة فاطمة تلك التي أهداها هي يوم الأحد والتي كانت بلون الدّم. ثم انتقل إلى غرفة التوأم. السماء في كل مكان في غرفتهما. قميص على الكرسي. صورة شمسية لكل منهما على الجدار. جلس، ضمّ القميص إلى صدره وبكى. بسام وزكريا اللذان كانا على مشارف الرجولة رحلوا. “كان في كتب المدرسة لإلهم والفوتبول”. ذاك العدوان الذي قتل الطفولة والرجولة ونحر عنق الإنسانية.  “زكريا وبسام كانوا يحلموا يصيروا نجوم، وهلّق صاروا نجوم السما.”

علق صورًا للعائلة على الحائط. لارا وحسين، فاطمة، التوأم. لكنه لم يجد صورة تجمعه بهم كلّهم. حتى في الذكرى… بقي وحده. لا ذكريات لتلك الصور عندما إلتقتت. ولكنها صارت هي كل الذكرى.

في ٢٢ شباط ٢٠٢٥، قرر زيارة موقع الغارة في النويري. صعد إلى الشقة. لم يبحث عن شيء. فقط وقف عند الطاولة، نظر إلى مكان مائدة الغداء. لارا كانت هناك تطبخ للعائلة.فاطمة كانت ترسم في الزاوية.قال:“يا ريت كاينين بغرف النوم، السفرة لكانت جامعيتن هيي ذاتا لفرقتني عنن.” ثم نظر إلى الجدران، وتمتم: “ليش خليتوني لحالي؟”

المحامي رامي أبو ملحم، الخبير في القانون الدولي، صرّح بأن ما جرى هو:“جريمة حرب موصوفة، وانتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف الرابعة. استهداف عائلة مدنية بكاملها هو مجزرة بكل المعايير، ويجب أن يُفتح فيها تحقيق دولي عاجل.” اليوم، علي يعيش في بيت بلا صوت. يزور قبورهم كل يوم، يبدأ بقبر أمّه وفاطمة. قال: “إمي بعدا ملجأي، حتى بعد موتها.” وعندما يسأله أحد:“وين أهلك؟” يردّ بهمسٍ يقطر وجعًا: “بقلبي.”.

شارك المقال:

زر الذهاب إلى الأعلى